لطالما كانت البنوك أداة حيوية في رسم ملامح الاقتصاد، ليس فقط من خلال تحقيق الأرباح، بل بدورها التنموي في دعم القطاعات الإنتاجية. وبينما تشهد الاقتصادات العالمية تحولًا نحو تنمية القطاعات الحقيقية كركيزة للاستقرار، تبرز تساؤلات مشروعة في الحالة المصرية: هل من مهام البنوك أن تظل منصبّة على تمويل الحكومة، أم أن دورها الاستراتيجي الأهم يكمن في توظيف الأموال لدعم القطاع الخاص، لا سيما في الزراعة والصناعة؟
إن السعي إلى بناء دولة زراعية صناعية ليس مجرد خيار، بل ضرورة اقتصادية تتماشى مع مستهدفات السياسات النقدية، وبخاصة في ظل رغبة البنك المركزي المصري في السيطرة طويلة الأجل على معدلات التضخم وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. وهذا لا يتحقق إلا عبر تمكين قطاعات الإنتاج الحقيقي من النمو، ودعمها بالمبادرات التمويلية المناسبة والتسعير العادل للائتمان.
ولا يمكن القفز على مفارقة مؤلمة: بلد نشأ على الزراعة، يروي أراضيه نهر النيل، ويملك دلتا خصبة، لا يتجاوز نصيب قطاع الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي 6%! وهي نسبة لا تعكس إطلاقًا حجم الإمكانات ولا الطموحات. في الوقت ذاته، لا تتجاوز مساهمة الصناعة 16%، رغم أهميتها المحورية، لا سيما الصناعات الزراعية التي تمثل حلقة الوصل بين الإنتاج الزراعي وتعظيم القيمة المضافة، وتسهم بشكل مباشر في تقليل فاتورة الاستيراد وزيادة الصادرات.
لقد آن الأوان لإعادة توجيه الموارد البنكية نحو القطاعات الإنتاجية، عبر:
• تصميم مبادرات تمويلية أكثر جرأة ومرونة تستهدف صغار المزارعين ورواد الصناعات التحويلية.
• اعتماد تسعير عادل يعكس الأولوية الاستراتيجية لهذه القطاعات، لا مجرد اعتبارات المخاطر التقليدية.
• تحفيز البنوك على الابتكار في أدوات التمويل التنموي وربط أدائها بمساهمتها الفعلية في دعم الاقتصاد الحقيقي.
إن استقرار عناصر الاقتصاد القومي لن يتحقق عبر سياسات نقدية فقط، بل يتطلب اقتصادًا حقيقيًا يُبنى على قاعدة إنتاجية قوية. والرهان الحقيقي ليس فقط في ضبط التضخم، بل في بناء اقتصاد متماسك تُقاس قوته بما ينتجه، لا بما يستهلكه