أغلى من النفط.. هل دخلنا زمن حرب الماء؟

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


تحوّلت أزمة المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من قضية بيئية إلى تحدٍ استراتيجي واقتصادي؛ فقد أظهرت تقارير صادرة عن مؤسسات دولية، من بينها البنك الدولي، أن تكلفة إنتاج وتوزيع المتر المكعب الواحد من المياه المحلاة في بعض دول الخليج تتراوح بين 0.5 و1.5 دولار، وهو رقم قد يتجاوز أحياناً سعر برميل النفط في فترات الانخفاض الحاد.ففي عام 2020 مثلاً تراجع سعر خام غرب تكساس إلى أقل من 20 دولاراً للبرميل، أي ما يعادل نحو 0.47 دولار للمتر المكعب، في حين بقيت كلفة المياه المحلاة عند مستويات أعلى.
هذا الواقع يسلّط الضوء على مفارقة لافتة: مورد كان يُعدّ يوماً بلا قيمة اقتصادية يُعاد تقييمه الآن كأصل استراتيجي لا يقل أهمية عن الطاقة.. وهو ما يطرح تساؤلات مركزية حول مدى استدامة الاعتماد على تحلية المياه، وحجم الفجوة بين الحاجة المتزايدة والموارد المحدودة.

ندرة متزايدة في الموارد وطلب لا يهدأ

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعدّ الأكثر ندرة بالمياه عالمياً، حيث يقطنها نحو 6% من سكان العالم، لكنها لا تمتلك سوى أقل من 1% من موارده المتجددة.. أكثر من 60% من سكان المنطقة يعيشون في مناطق تعاني من شحّ حاد في المياه، أي أن حصة الفرد السنوية تقل عن 500 متر مكعب، وهي أقل بكثير من خط الفقر المائي المحدد بـ1,000 متر مكعب.ولا تقتصر الأزمة على الشحّ الطبيعي فحسب، بل تتفاقم نتيجة الزيادة السكانية السريعة، والتوسع الحضري، وتغيّر المناخ الذي يعيد تشكيل أنماط الهطول ويزيد من حدة الجفاف. وقد دفع هذا الواقع العديد من الشركات العالمية والمؤسسات المالية إلى التعامل مع المياه كمورد اقتصادي قابل للتداول، إذ أُدرجت عقود المياه الآجلة في بورصة «وول ستريت» للمرة الأولى عام 2020، في سابقة فتحت الباب لتحويل المياه إلى سلعة استثمارية.

تحلية المياه.. بين الضرورة والتكلفة

وسط هذا الواقع المتأزم، برزت تحلية مياه البحر كأحد الحلول المحورية لتأمين مصادر بديلة. وتستحوذ دول الخليج العربي على أكثر من 60% من إجمالي القدرة الإنتاجية العالمية لتحلية المياه، بحسب البنك الدولي، حيث تعتمد على التحلية لتوفير ما يفوق 70% من احتياجاتها من مياه الشرب.إلا أن هذا الخيار يحمل معه تحديات بيئية واقتصادية كبيرة، فعملية التحلية، خاصة في صيغتها الحرارية التقليدية، تستهلك كميات هائلة من الطاقة وتنتج نفايات ملحية تُضخ في البحر، ما يهدد النظم البيئية الساحلية. وتتراوح كلفة المتر المكعب الواحد من المياه المحلاة بين 0.5 و1.5 دولار، ما يجعلها باهظة مقارنة بالمصادر العذبة، فضلاً عن كونها تتطلب استثمارات رأسمالية ضخمة وتكاليف تشغيل مرتفعة.

عُمان.. “بركة 4” وصور كنموذج متكامل

تُعد محطة «بركة 4» في سلطنة عُمان من أكبر محطات تحلية المياه في الشرق الأوسط، حيث تقع في محافظة الباطنة وتنتج نحو 281,000 متر مكعب من المياه يومياً، لتلبي حاجات أكثر من 1.2 مليون شخص، وتعتمد المحطة على تقنية التناضح العكسي (Reverse Osmosis)، وهي تقنية أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة مقارنة بالتحلية الحرارية.المشروع تُديره شركة Veolia الفرنسية، بالشراكة مع شركة «نماء للمياه» العُمانية، ضمن خطة وطنية لتعزيز أمن المياه في السلطنة. كما تشغل Veolia محطة أخرى في مدينة صور، تُعد من أقدم المحطات في البلاد، وتُنتج أكثر من 131,000 متر مكعب يومياً.يمثّل المشروعان نموذجاً ناجحاً للتعاون بين القطاعين العام والخاص في تطوير بنية تحتية مائية مستدامة، قائمة على التكنولوجيا الحديثة والكفاءة التشغيلية، ما يتيح تعزيز الأمن المائي في ظل ظروف مناخية قاسية.

الإمارات.. “المرفأ 2″… تحلية أكثر كفاءة

في دولة الإمارات، يتم حالياً تطوير محطة «المرفأ 2» (Mirfa 2) في أبوظبي، والتي يُتوقّع أن تُصبح واحدة من أكبر وأكفأ محطات التحلية على مستوى العالم. المشروع تقوده شركة Veolia، عبر فرعها SIDEM، ضمن ائتلاف مع شركة أبوظبي الوطنية للطاقة (TAQA) وشركة ENGIE الفرنسية.المحطة ستعتمد بالكامل على تقنية التناضح العكسي، بطاقة إنتاجية تصل إلى 550,000 متر مكعب يومياً، ما يكفي لتوفير مياه شرب نظيفة لنحو مليوني شخص. ويُعد هذا التحول خطوة رئيسية في الاستغناء التدريجي عن المحطات الحرارية القديمة، في إطار سعي الإمارات لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050.المشروع، الذي تبلغ قيمته 300 مليون يورو، سيُسهم في خفض استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 80% مقارنة بمحطات الثمانينيات، ما يجعله نموذجاً يُحتذى في التحول نحو تحلية مستدامة. ويعكس «المرفأ 2» توجهاً إقليمياً لاستخدام التكنولوجيا المتقدّمة لمواجهة التحديات المائية، دون الإخلال بالأهداف البيئية طويلة الأمد.

المياه في سوق المضاربة

لم يعد النقاش حول المياه محصوراً في الإنتاج أو الكفاءة، بل تجاوز ذلك إلى الأبعاد المالية؛ إدراج المياه في البورصات العالمية حوّلها إلى سلعة تخضع لأسعار السوق، وتتأثر بالتقلبات المناخية والجيوسياسية، ما أثار جدلاً واسعاً حول أخلاقيات تسليع مورد يفترض أن يبقى حقاً إنسانياً.يرى بعض الخبراء أن الخطوة تساعد في تعزيز الكفاءة وتقليل الهدر، فيما يحذر آخرون من أن خصخصة هذا المورد الحيوي قد تفتح الباب أمام احتكاره، وتُعقّد وصول الفئات الهشّة إليه.في ظل تسارع التغيّرات المناخية والضغوط الديموغرافية، تبرز المياه كواحدة من أخطر التحديات المستقبلية التي تواجه المنطقة.. ومع أن تحلية المياه توفّر حلاً تقنياً مهماً، إلا أن استدامته تبقى رهناً بقدرة الدول على تبنّي سياسات مائية شاملة، تُوازن بين الأمن المائي والاعتبارات البيئية والمالية.المشاريع الكبرى في عُمان والإمارات، وعلى رأسها «بركة 4»، و«صور»، و«المرفأ 2»، توفّر نماذج متقدّمة يمكن البناء عليها، شرط أن تترافق مع تخطيط طويل الأمد يعيد تقييم قيمة كل نقطة ماء… في زمن أصبح فيه الماء أغلى من النفط.



Source link

‫0 تعليق

اترك تعليقاً