سجّل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في المملكة نمواً بنسبة 2.7 في المئة خلال الربع الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وفقاً لتقديرات أولية صادرة عن الهيئة العامة للإحصاء اليوم الخميس.أما على مستوى الربع الأول من 2025، فقد أظهرت الأرقام الأولية أن الأنشطة غير النفطية نمت بنسبة 4.2 في المئة، بينما ارتفعت الأنشطة الحكومية بـ3.2 في المئة، في حين سجلت الأنشطة النفطية تراجعاً بـ1.4 في المئة، ما يؤكد أن الاقتصاد السعودي بات أكثر توازناً وأقل اعتماداً على النفط.
اليوم، يبدو أن تلك القطاعات بدأت تلتقط زمام المبادرة بالفعل، بدعم من الاستثمار في البنية التحتية، والتوسع في قطاعات السياحة، والخدمات اللوجستية، والتقنية، ما جعل الأداء الكلي أكثر تماسكاً رغم التحديات العالمية.ورغم أن هذا المعدل لا يُعد قفزة كبيرة مقارنة بفصول نمو سابقة كانت تعتمد على ارتفاع أسعار النفط، فإن اللافت في هذه البيانات هو أن الزخم جاء بالأساس من القطاعات غير النفطية، ما يعكس التحوّل التدريجي في بنية الاقتصاد السعودي تحت مظلة رؤية السعودية 2030.
هذا النمو يعيد التوازن بعد تباطؤ نسبي شهده الاقتصاد السعودي في النصف الثاني من العام الماضي، حين تراجعت مساهمة القطاع النفطي في الناتج بفعل خفض الإنتاج ضمن اتفاق أوبك+، والتقلبات في الطلب العالمي، وهو ما وضع المزيد من الضغط على القطاعات غير النفطية لتقود النمو.
التحديث الشامل والتاريخي لأرقام الناتج المحلي الإجمالي
ويُذكر أنه قد أعلنت الهيئة العامة للإحصاء عن تحديث شامل وتاريخي لأرقام الناتج المحلي الإجمالي، كشف أن اقتصاد المملكة في 2023 كان أكبر بـ566 مليار ريال عمّا تم تقديره سابقاً، بزيادة بلغت 14.1 في المئة، ليرتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.5 تريليون ريال.هذا التحديث، الذي أُجري وفقاً لأفضل الممارسات الدولية، لم يكن مجرد تصحيح رقمي، بل إعادة رسم واقعية لما يحدث فعلياً في اقتصاد يشهد تحوّلاً هيكلياً سريعاً. فقد أظهرت الأرقام الجديدة أن مساهمة القطاعات غير النفطية قفزت إلى 53.2 في المئة من الناتج، بزيادة 5.7 نقاط مئوية على التقديرات السابقة، بدعم من النشاط المتزايد للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي باتت محركاً حقيقياً للنمو.وليس هذا كل شيء، وفقاً للتفاصيل الجديدة، ارتفعت أنشطة البناء بنسبة ضخمة بلغت 61 في المئة، بينما نمت التجارة بالجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق بنسبة 29.8 في المئة، في حين قفزت أنشطة النقل والتخزين والاتصالات بـ25.6 في المئة، هذا يعكس التنوع المتسارع الذي بدأ يغيّر وجه الاقتصاد السعودي منذ إطلاق رؤية 2030.جاءت هذه المراجعة بعد إطلاق مشروع التحديث الشامل للناتج المحلي مطلع 2024، إذ تم الاعتماد على مسوحات موسعة شملت الإنفاق الأسري، والنشاط الزراعي، والمؤسسات الاقتصادية، إلى جانب الاستفادة من مصادر البيانات الإدارية. كما اعتمدت الهيئة منهجية «السلاسل الزمنية المترابطة» لقياس النمو الحقيقي، وهو الأسلوب المعتمد عالمياً لرفع دقة المؤشرات.اللافت أن التحديث الجديد غطّى 134 نشاطاً اقتصادياً، مقارنة بـ85 فقط في التصنيف السابق، ما أعطى صورة أكثر تفصيلاً وشمولية عن الاقتصاد الوطني. أوضح رئيس الهيئة، فهد الدوسري، أن هذا التحديث جاء استجابةً لطلب متزايد من الجهات المحلية والمهتمين للحصول على بيانات أعمق وأكثر دقة، قائلاً إن «الجميع كان جائعاً للمزيد من الإحصاءات والتفاصيل».
مقارنة ربع سنوية.. تغيرات على فترات أقصر
في عام 2022، بدأ الاقتصاد بوتيرة نمو مستقرة نسبياً، إذ تراوحت معدلات النمو الربعية بين 1.2 في المئة و2.2 في المئة، كان ذلك في ظل بيئة اقتصادية داعمة بفضل ارتفاع أسعار النفط آنذاك، ما أعطى دفعة قوية للناتج المحلي، لكن مع بداية عام 2023، انعكست الصورة تماماً، فقد بدأ الاقتصاد يفقد زخمه، وسجّل الربع الثاني انكماشاً بنسبة 0.7 في المئة، ثم انكماشاً أعمق بنسبة 2.9 في المئة في الربع الثالث، لم يشهد الاقتصاد تعافياً فعلياً سوى في الربع الرابع من العام نفسه بنسبة نمو ضعيفة بلغت 0.1 في المئة.في عام 2024، عاد النمو بشكل متباين؛ إذ سجّل الربع الأول ارتفاعاً لافتاً بنسبة 2.9 في المئة، وهو ما يُعزى إلى تعافٍ جزئي في الأنشطة غير النفطية، لكن هذا الزخم لم يستمر، إذ تباطأ النمو إلى 0.4 في المئة ثم 0.1 في المئة في الربعين الثاني والثالث، قبل أن يسجّل تحسناً طفيفاً بـ0.8 في المئة في الربع الرابع.وبحسب البيانات الرسمية الحديثة من الهيئة العامة للإحصاء، فإن الربع الأول من عام 2025 شهد نمواً بنسبة 0.9 في المئة، ورغم أنه يعكس تحسناً طفيفاً مقارنة بالربع السابق، فإنه لا يزال ضمن نطاق النمو المحدود، ما يؤكد استمرار التحديات التي يواجهها الاقتصاد.الخلاصة، في سياق رؤية السعودية 2030، يبدو هذا التحديث أكثر من مجرد أرقام، بل شهادة واقعية على أن التحوّل جارٍ بالفعل، وأن النمو الجديد يستند إلى قاعدة اقتصادية أوسع وأكثر تنوعاً.وتأتي هذه البيانات في وقت حرج، إذ تسعى المملكة إلى تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على الاستقرار المالي وضمان استدامة النمو، خصوصاً في ظل التزاماتها الكبيرة في مشاريع التحول الاقتصادي العملاقة، مثل نيوم والقدية وغيرهما.في المجمل، هذا النمو وإن كان معتدلاً من حيث النسبة، إلا أنه يحمل دلالات أعمق على صعيد جودة النمو، ومدى تقدّم المملكة في مسارها نحو اقتصاد متنوع ومستدام بعيداً عن تقلبات أسواق الطاقة.