مَن ذا الذي يستطيع التكهّن بما قد يُقدم عليه دونالد ترامب لاحقاً؟ فها قد مضت مئة يوم فقط على تولّيه السلطة، ولا يزال أمامه ما يقارب 1355 يوماً. وفي تشخيصٍ سياسي، يُوصف ترامب بأنه متقلّب المزاج؛ إذ رسم في خطاب تنصيبه الأول ملامح “كارثة أميركية”، ثم عاد في خطابه الثاني واثقاً مُبشّراً بحقبةٍ جديدةٍ ومثيرةٍ من النجاح والازدهار لأمريكا.في الأسابيع الأخيرة، وجد الرئيس ترامب والأسواق نفسيهما في دوامة مُنهكة، يتشابكان كغريقين يتعانقان وسط التيار. ولولا خطورة المشهد، لكان أقرب إلى مشهدٍ ساخرٍ يعجز الخيال عن تصديقه.
وهنا تبرز تساؤلات مشروعة: مَن يسبق الآخر إلى الذعر؟ هل هي بالفعل فوضى جمركية عابرة كما تبدو للعيان أم أن خلف تقلبات ترامب ما يُحاك من خيوط استراتيجية دقيقة يخشاها الخصوم ويزعمها المؤيدون؟ وهل جاءت استجابة الأسواق تعبيراً عن تقديرٍ هادئ لتبعات المشهد الاقتصادي أم أنها مجرد صدمة لنظام مالي استيقظ فجأة من سُباته الطويل؟ اللافت في الأمر أن الأسواق المالية، بطبيعتها، لا تهتز أمام ما نعدّه نحن أخباراً يومية عادية.
على امتداد التاريخ، لم تكن الأسواق المالية تهتز إلّا أمام أحداث استثنائية نادرة، كأزمة السويس وأزمة الصواريخ الكوبية واغتيال الرئيس جون كينيدي، حينها فقط كانت وول ستريت تستجيب بانفعالٍ واضح. أمّا في غير ذلك، فلطالما سارت الأسواق وفق منطقها الخاص وإيقاعها الذي لا يشبه سواه.لكن ترامب ليس كأي سياسي عرفته الساحة الأميركية من قبل. ففي هذا الشهر وحده، أطلق الرئيس أكبر موجة مفاجئة من التعريفات الجمركية شهدها الاقتصاد الأميركي عبر تاريخه، من حيث الحجم والتأثير. ضرائب الاستيراد هذه أعادت إلى الأذهان تعريفات سموت-هاولي الشهيرة عام 1930، التي ارتبطت آنذاك بواحدة من أحلك الأزمات الاقتصادية. غير أن ما فعله ترامب جاء في عالمٍ أكثر ترابطاً وتشابكاً اقتصادياً من أي وقتٍ مضى، وفي توقيتٍ لم يكن فيه العالم يتوقع مفاجآت بهذا الحجم.ثم ما لبث ترامب أن علّق بعض التعريفات الجمركية لمدة 90 يوماً، في خطوة اعتبرها كثيرون تراجعاً من الرئيس، لكنها بدت أقرب إلى التفاف جانبي لا انعطافة حقيقية. ذلك أن رفعه الكبير للتعريفات على الواردات الصينية أبقى متوسط الضرائب المفروضة على المستوردين الأميركيين مرتفعاً كما هو. ولم تمضِ سوى فترة وجيزة حتى صدر إعلان ثالث هزّ الأسواق: إعفاء مؤقت للهواتف الذكية الصينية وعدد من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية من تلك الرسوم العقابية. غير أن المفاجآت لم تتوقف عند هذا الحد، إذ أعقب ذلك إعلان رابع مفاده أن هذا الإعفاء مؤقتٌ بدوره، وأن البيت الأبيض يعكف بالفعل على إعداد حزمة تعريفات جديدة قادمة.من المؤكد أن هذا النهج لا يُعدُّ الخيار الأمثل إن كان الهدف إقناع الشركات بنقل مصانعها إلى الأراضي الأمريكية، إذ تتطلّب مثل هذه السياسات أن تتسم بالوضوح والثبات والقدرة على التنبؤ، وأن تحوز قدراً من المصداقية يفوق هذا بكثير. ولعل المتشائمين يرون في هذا التخبّط ما يشبه منح المقرّبين فرصةً للتربّح من التداول بمعلوماتٍ مسبقة وهو ما نفاه البيت الأبيض جملةً وتفصيلاً. لكن التفسير الأبسط، والأقرب إلى المنطق، هو على الأرجح الأصدق: أن سياسات ترامب الجمركية تتبدل بهذا الشكل لأنه ببساطة لم يحسم أمره بعد.فكيف يمكننا إذاً قراءة رد فعل الأسواق إزاء تصريحات الرئيس ترامب؟ في مشهد لافت، هبط مؤشر ستاندرد آند بورز 500 -المؤشر الأبرز الذي يعكس أداء كبرى الأسهم الأميركية- بنحو 5% في الثالث من أبريل، ثم 6% في اليوم التالي. كانت هذه تراجعات حادّة، لا سيما حين تأتي في يومين متتاليين، الأمر الذي أضفى على المشهد المالي طابعاً استثنائياً يستحق التوقف والتأمل.ومع ذلك، ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها الأسواق اضطرابات حادّة. ففي ذروة الأزمة المالية عام 2008 وفي أثناء جائحة 2020، سجّل مؤشر ستاندرد آند بورز 500 انخفاضات يومية أكبر. ويكفي أن نعود إلى 19 أكتوبر 1987، حين تراجع المؤشر بأكثر من 20% في يوم واحد دون سبب واضح، أو إلى الانهيار الشهير عام 1929، حين هوت الأسواق بأكثر من 10% في يومي 28 و29 أكتوبر، ثم بنحو 10% أخرى في الأسبوع التالي. صحيحٌ أنه لا توجد سابقة تاريخية دقيقة لما أحدثته رسوم ترامب الجمركية، إلّا أن صدى أحداث 1929 و1930 لا يزال حاضراً بقوة. فقد استمر سوق الهبوط آنذاك لثلاث سنوات متوالية، خسر خلالها مؤشر داو جونز الصناعي 89% من قيمته، وانزلقت الولايات المتحدة إلى أعماق الكساد الكبير. وإن كان ذلك أقرب سيناريو تاريخي يمكن مقارنته، فهل يُعقل أن تبدو الأسواق اليوم أكثر هدوءاً مما ينبغي؟تكمن المشكلة الأساسية في تفسير رد فعل الأسواق في أنه ما زال من غير الواضح تماماً ما الذي يجب أن تتفاعل معه السوق بالضبط. من وجهة نظر المتشائمين، وبالنظر إلى أن تعريفات ترامب الجمركية الجديدة تعرقل التجارة بين أكبر اقتصادين في العالم؛ الولايات المتحدة والصين، وتؤثّر سلباً في نظام التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، فإن رد فعل الأسواق لم يكن فقط هادئاً، بل كان متساهلاً إلى حد بعيد؛ إذ إن الانخفاض الحاد لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 بعد الإعلان الأولي قد محى أشهراً من المكاسب التي كان من الممكن أن يحققها أي مستثمر قام بشراء المؤشر قبل عام. ومع ذلك، هذا لا يعني أن الأسواق قد استوعبت تماماً المخاطر المحتملة للركود العميق.لم يمضِ على توليه منصبه سوى ثلاثة أشهر، ويبقى أمامه 45 شهراً.. فما الذي ينبغي للمستثمرين فعله الآن؟هناك وجهة نظر أكثر تفاؤلاً، تفترض أن السوق لم تتأثر كثيراً بتعهدات ترامب بفرض رسوم جمركية، حيث افترض المستثمرون أن أي رسوم ستكون متواضعة. لكن عندما تم الإعلان عن رسوم ضخمة، كان رد فعل السوق حاداً ولكنه محدود. مرة أخرى، افترض المستثمرون أن ترامب لم يكن يقصد ذلك بالفعل.. وعندما سارع إلى تخفيض بعض الرسوم الجمركية -بشكل مؤقت كما أُعلن- ثم زادها مرة أخرى، وأعلن إعفاءات، ليعود بعدها ويقول إن تلك الإعفاءات ستكون مؤقتة أيضاً، قرر مستثمرو سوق الأسهم أن المشكلة ليست في الرسوم الجمركية نفسها، لأن هذه ستأتي وتذهب، بل كانت المشكلة في التخبط المحير والمضحك (للبعض) الذي يخرج من البيت الأبيض.يبدو أن مستثمري سوق السندات قد توصلوا إلى النتيجة نفسها، لكنهم أكثر تشاؤماً بشأن ما يعنيه ذلك. فمع تزايد التقلبات، قام المستثمرون ببيع سندات الخزانة الأميركية والدولار، وهو أمر غير طبيعي. عادةً ما يكون رد فعل المستثمرين تجاه الفوضى هو شراء الدولار وسندات الخزانة الأميركية، حتى لو كانت الولايات المتحدة نفسها هي مصدر هذه الفوضى. ولكن هذا الشهر، اكتشفنا استثناءً لهذه القاعدة.مهما كان حكم التاريخ، فإن هناك شيئاً مقنعاً في الصراع المحموم بين الرئيس ترامب والأسواق. لقد أظهر ترامب قدرة مذهلة على الهيمنة على العناوين الرئيسية، وقدرة مماثلة على تحقيق نتائج، حتى وإن كانت نتائج سلبية. يستطيع ترامب أن يدفع السوق للانخفاض، كما يستطيع أن يعيده للارتفاع. لكن الأسواق لا تنحني احتراماً لترامب كما يفعل السياسيون الجمهوريون أو قادة الأعمال ضعاف القلب.. هذه ليست الطريقة التي تسير بها عادة الأمور.. ليس لدى الأسواق أي مصلحة في استرضاء الرئيس.ففي بعض الأحيان، تكون السوق في حالة من النشوة، وأحياناً أخرى في حالة من الاكتئاب.. لكن الأسواق تمتلك سمة عظيمة واحدة: إنها دائماً ما تقول الحقيقة، بغض النظر عمّن يكون في سدة السلطة.تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.