لا شك أن المشاهد لإعلامنا العربي، يدرك مدى الحمأة التي انحدر إليها، وتصيبه الدهشة والإحباط واليأس والاستفزاز، بعدما أصبح يطالع وجوه الجلادين الصهاينة وهم يتبحبحون ويتبجحون على شاشاتنا، مدافعين عن أنفسهم، مُلقين باللوم على الضحايا الفلسطينيين المجرمين الذين يهددون وجودهم ويزلزلون أمانهم، ويريدون أن يخرجوهم من ديارهم بغير حق ويعيدوهم إلى الشتات مرة أخرى.. (!!) لا لشيء إلا لأن الفلسطيني استخدم حقه المشروع في مقاومة المحتل.. فيستضيف إعلامُنا المحللين الاستراتيجيين والمتحدثين الرسميين الإسرائيليين، ليسوء وجوهنا بسحنهم الكريهة، وأصواتهم المنفرة.. يفعل إعلامنا كل ذلك بحجة «المهنية» و«الحياد» و«الموضوعية» التي توجب سماع «الرأي الآخر».
وأول من تولى كبر هذه البدعة الإعلامية، فيما أذكر، هي قناة الجزيرة، وجاءت من بعدها قناتا «العربية» و«سكاي نيوز عربية».
ولولا علمُ المشاهد العربي الكريم بأن حكمة الله فوق العقول، كما قال نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال إحدى رواياته، لأصابه الجنون، فأي «رأي آخر» هذا، وأية «وجهة نظر» تعيسة تلك التي يسمح إعلامنا للإسرائيليين بعرضها علينا، بعد أن ألقوا على غزة ما يوازي أكثر من قنبلتين ذريتين ونصف القنبلة الذرية في الأشهر الماضية؟!
دعونا إذن نسم الأشياء بأسمائها الحقيقية، ونحدد المصطلحات التي نستخدمها: أنتم تعلمون أن هذا الذي تفعلون ليس من المهنية بحيادها وموضوعيتها في شيء يسير ولا خطير، وإنما هي الخيانة للعروبة والإسلام والقضية الفلسطينية، التي تحلبون منها شرعية وجودكم الإعلامي والسياسي، وتخدمون مصالحكم الذاتية الضيقة لآخر قطرة دم من دماء أبنائها الذين يُبادون ويُشردون على مرأى ومسمع من ضمير العالم المتحضر، الذي مات وشبع موتا.
إن عاقبة ما يفعله إعلامنا العربي خطيرة جدا. فبحسب هذا النهج الذي يتبناه، لم يعد الصهيوني المغتصب للأرض والعرض، عدوا قاتلا مدمرًا، تنبغي مجالدته ومقاومته دون هوادة، بل أصبح – مع بالغ الأسف والامتعاض – واحدا منا نختلف معه ونتفق بل وربما نساومه «من يعلم؟!».. وإذن فهو مجرد خلاف بين أفراد الأسرة الواحدة.. فقد ذابت الحدود السياسية والأخلاقية والإعلامية، فلْيمدّ الصهيوني رجليه ولْيتربع في إعلامنا ولْيدخل إلى مخادعنا وغرف معيشتنا كما يشاء، حتى نعتاد وجوده بيننا، ونألفه شيئا فشيئا، وليس بمستبعد أن يحصل الخبيث، ببعض حيله الماكرة، على تعاطف بعض ضعاف النفوس والوعي منا، فيلتمسوا له الأعذار وهو يذبحنا من الوريد إلى الوريد صباح مساء.
ألم تقنعكم، بعدُ، بلاغة مجازر الصهيوني، الذي حصدت آلته العسكرية أكثر من ستين ألف شهيد وأكثر من مائة ألف مصاب في فلسطين، في التسعة عشر شهرا الماضية، فرُحتم تبحثون له عن مبررات واهية وذرائع مصطنعة، يعرضها علينا عبر إعلامكم وشاشاتكم، ليستمر في حصد الأنفس وقضم ما تبقى من الأرض والعرض؟!
سنفترض افتراضا جدليا بعيدا، وهو أن إعلامنا وإعلاميينا والساسة الذين يوجهونهم، يجهلون العقيدة الإسرائيلية التي توجه السلوك الإسرائيلي العدواني تجاه الشعوب المحيطة بهم، البعيد منها والقريب على السواء، وهي العقيدة التي تفرضها عليهم التوراة بلهجة آمرة لا تقبل التهاون ولا التخاذل، حيث جاء في سفر «التثنية»، الإصحاح رقم «20» ما نصه:«حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبَد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاها الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبقِ منها نسمة ما، بل تحرّمها تحريما:الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك».
ولاحظ منبع الشعور الإسرائيلي بالاستعلاء والمركزية المهيمِنة، المهمِّشة للأغيار الذين لا ينبغي لهم إلا خدمة الإسرائيليين والدوران في فلكهم «بزعمهم الواهم طبعا»، حيث تأمرهم توراتهم المحرفة قائلة: «استدعها إلى الصلح»، أي وأنت في مُستقر مُلكك وأبهة سلطانك تلبي الشعوب زاحفة إليك دعوة الصلح. كما لا يخفى مَن هم «الكنعانيون» المذكورون في النص التوراتيّ، الذين أمرت التوراة بإبادتهم واستئصالهم، إنهم لمن لا يزال يتعامي و«يصهين»، سكان الأرض الأصليون: الفلسطينيون والأردنيون والسوريون، الذين ينفذ فيهم الإسرائيليون حكم التوراة الآن ومنذ زمن بعيد.
تلك هي عقيدة إسرائيل ورؤيتها للعالم من حولها، وهي تنفذها بكل همة ودأب، ودون كلل أو ملل، فلا تكونوا عونا للعدو على تنفيذها بهوانكم، وتواطؤكم، ورضوخكم للإملاءات الصهيو-أمريكية. وبدلا من ذلك استنهضوا الهمم واستلهموا تاريخكم العربي التليد المجيد، وحفزوا شعوبكم على التمسك بالحقوق وجعْل المقاومة خيارا أبديا، وتعلموا من عدوكم: فهل يستدعي الإعلام الإسرائيلي – بالمثل – محلليكم السياسيين على قنواتهم لفضح الظلم والعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين – لا سمح الله!! – أو لاستطلاع آرائهم ووجهات نظرهم حتى في طريقة القتل المناسبة لشعوبهم؟ فما أشد تماسكهم على باطلهم، وما أشد تفرقكم على حقكم!! كما قال الإمام عليّ «كرّم الله وجهه».
لا عذر لكم، فقد بصّركم قرآنكم المهيمن على كتبهم المحرفة، وحذركم من عداوتهم وكراهيتهم بقوله: «لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون» [المائدة:82].إن مجرد إيمانكم بربكم وبحقكم وبعدالة قضيتكم يستثير كراهيتهم وعداوتهم. أي أن العداوة محتومة مقدورة، فهل تتخلون عن كل ذلك لترضوهم؟!
إعلامنا العربي «المهني جدا».. «الإنساني جدا»، «المحايد جدًا»، استقم على الطريقة، ولا تفرط في أهم أسلحة المعركة «الإعلام»، فالكيان الصهيوني اللقيط إلى زوال، وربما تكون هذه هي معركتنا الأخيرة، والتاريخ لن يرحم أحدًا.«وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».