بينما تعزف كلٌ من الولايات المتحدة والصين سيمفونية الحرب الاقتصادية على أنغام الرقائق الإلكترونية تارةً وعلى نغم التعرفة تارةً أخرى، تتراقص دول وشركات تريليونية على قرع الطبول، تهبط بالأسواق العالمية من جهةٍ وتسحق سلاسل توريد من جهةٍ أخرى، تلك التي لطالما حلمت البشرية الوصول إليها. وكأن تلك النغمات المعقدة والمثيرة بين أكبر القوى الاقتصادية في العالم، تقرع جرس الإنذار بسيناريوهات لا تحمد عقباها. في نهاية عام 2024، وصلت هذه الرقصة إلى مستويات جديدة (أو منخفضة، حسب وجهة نظركم)، مع فرض التعريفات الجمركية والكثير من المناورات الاقتصادية.. دعونا نغوص في تفاصيل هذه الرقصة المعقدة ونرى من يقود ومن يتبع.
تفرض الفجوة الهائلة في الميزان التجاري الأميركي بأن تعزف الولايات المتحدة على النغم الحزين وخاصة مع الصين، ويكفيك أن تعلم بأن الولايات المتحدة اشترت بضائع بقيمة 439 مليار دولار من الصين كان أهمها الإلكترونيات، بينما باعت فقط 143.5 مليار دولار في المقابل وكان أهم الصادرات الأميركية هو فول الصويا الذي يُستخدم علفاً للخنازير في الصين ولا يخلى الأمر طبعاً عن بعض الطائرات والآلات الأميركية.
هذا العجز التجاري البالغ 295 مليار دولار يشبه الثقب الأسود في الفضاء والذي لم تعرف الإدارات الأميركية المتعاقبة على إغلاقه. الرئيس ترامب، المعروف بأسلوبه الاستعراضي، مصمم على تقليص هذه الفجوة التاريخية، حتى لو كان ذلك يعني رفع التعريفات الجمركية إلى مستويات مذهلة وعلى الدول الصديقة كلها قبل المعادية للولايات المتحدة. ويثقل ذلك العجز كاهل الاقتصاد الأميركي بشكل مستمر من فقدان الوظائف في بعض القطاعات وزيادة اعتماد السوق الأميركي على البضائع الصينية. ومع ذلك، فإنه أيضاً علامة على الطلب القوي من المستهلكين الأميركيين على المنتجات المنخفضة التكلفة، التي تتقن الصين صناعتها. وهذا هو بيت القصيد، فالمستهلك الأميركي لا يعجبه أسعار المنتجات الأميركية، كما أن تكلفة الصناعة في الولايات المتحدة أعلى منها في الصين وذلك لأسباب عديدة أهمها تكدس الأيدي العاملة الماهرة في السوق الصيني.بالرغم من جرأة الرئيس ترامب في محاولاته المتعثرة الآن والتي عليها شكوك كبيرة بأن تبصر النور، بقي القطار الصيني يمشي رغم صراخ التعريفات الجمركية على البضائع الصينية الذي وصل إلى 145%. هذا يعني أن المنتجات الصينية المبيعة في الولايات المتحدة تخضع الآن لضريبة تعادل 2.45 ضعف سعرها الأصلي.. إنه أشبه ببيع سيارة اقتصادية بسعر سيارة فاخرة.. لذلك اتخذت بعض الشركات تدابير إما من خلال التواصل مع أسواق أخرى أو نقل مصانعها إلى دول مجاورة مثل الهند كما فعلت آبل. تعد أشباه الموصلات عنصراً أساسياً للتكنولوجيا الحديثة، حيث تُشغل الأجهزة الإلكترونية كلها التي اخترعتها البشرية من الهواتف الذكية إلى الأنظمة العسكرية والفضاء وغيرها. نفّذت الولايات المتحدة تدابير مختلفة للحد من وصول الصين إلى تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة. من جانبها، استثمرت الصين بكثافة في صناعة أشباه الموصلات الخاصة بها بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي، كما خرجت الصين بنموذج ذكاء اصطناعي «دييبسيك» الذي قلب الطاولة على كل ما توصلت له الشركات الأميركية، حيث تعتمد النماذج الأميركية على قدرة حاسوبية عالية تحتاج إلى مراكز بيانات ضخمة تبلغ تكلفتها مئات المليارات من الدولارات، بينما استطاع النموذج الصيني أن يخرج للنور بتكلفة 5 ملايين دولار فقط، ناهيك عن أطماع الصين للسيطرة على تايوان والتي سارعت الولايات المتحدة لنقل بعض مصانع الشركة التايوانية إلى أراضيها في السنوات الماضية.لعبة شد الحبل أو عض الأصابع التي مارستها الإدارات الأميركية المتعاقبة على الصين لم تنفع، والسبب هو متانة سلاسل التوريد الصينية وقدرتها على تحمل الضغط الأميركي. وسردت تفاصيل قوة سلاسل توريد الذكاء الاصطناعي في الصين في مقال سابق “معركة سلاسل قيم الذكاء الاصطناعي: حرب عالمية ثالثة، أم طعم آخر من البرجر والنودلز؟: والتي تحدثت فيها من كثب كيف تسيطر الصين على سلاسل ذكاء اصطناعي قوية من مراحل التصميم وصولاً إلى التصنيع. وبالرغم من حرمان الصين من الحصول على آلات سبك الرقائق المتقدمة من الشركة الهولندية ASML لكن هناك أبحاثاً ودراسات تشير إلى إمكانية صناعة الصين لتلك الآلات المتقدمة والتي ستؤدي إلى إغلاق الفجوة مع الولايات المتحدة.بالرغم من تحدي الرئيس الأميركي للصين عندما نقل اللعبة من عض أصابع إلى تكسير العظم موازياً مع صخب إعلامي للتعرفة الأميركية على الصادرات الصينية، لكن الرد الصيني كان هادئاً وصلباً، حيث فرضت الصين تعريفات جمركية بلغت 125% على البضائع الأميركية، وردت الأسواق بعنف على الإجراءات الأميركية حيث هبطت الأسواق الأميركية وخاصة أسهم العمالقة التكنولوجيا السبع من ذروتها في نوفمبر 2024 إلى مستويات قياسية، حيث بلغت خسارة القيمة السوقية لتلك الشركات 2.3 تريليون دولار وشركة إنفيديا وحدها أكثر من 1.3 تريليون دولار أي ما يساوي ثُلث قيمة الشركة التي بلغت أغلى شركة من حيث القيمة السوقية في العالم سابقاً. حيث فرضت الإدارة الأميركية حظراً على تصدير إنفيديا لرقائق H20 المخصصة للسوق الصيني التي كانت تقدم خياراً تقنياً أقل تقدماً من منتجاتها الأخرى مثل بلاكويل وH200، ما اضطر رئيس شركة إنفيديا لزيارة الصين لأهمية هذا السوق للشركة والذي كان يشكّل 25% من مبيعاتها قبل بدء العقوبات في فترة إدارة بايدين حتى وصلت إلى 12% مع نهاية العام الماضي، كانت الإجابة الصينية لذلك الحضر سريعة جداً من شركة هواوي والتي وعدت بتوفير رقائق كرت الشاشة Ascent 910C والتي توازي ما تقدمه إنفيديا للسوق الصيني.أذعنت الإدارة الأمريكية بقوة سلاسل التوريد الصينية عندما رفعت العقوبات على بعض الأجهزة الإلكترونية والهواتف، وهو الأمر الذي كاد أن يؤدي إلى شلل في السوق الأمريكي خاصة على الشركات الناشئة والمتوسطة الأمريكية. وستؤدي تلك التعريفات إلى تأثيرات بعيدة المدى من شأنها أن ترفع من قدرة الصين المتزايدة. ومن جهة المستهلك الأمريكي، سترتفع أسعار المنتجات مثل الإلكترونيات والملابس والسلع المنزلية. أما الشركات الأمريكية فهي على موعد لتعطيل سلاسل التوريد وزيادة التكاليف، ما يؤدي إلى تقليل التنافسية والربحية. من الجانب الصيني، تؤثّر التعريفات قس اقتصادهم المعتمد على التصدير، ما قد يؤدي إلى تباطؤ النمو وفقدان الوظائف في القطاعات الصناعية.تلعب الصين دور «مصنع العالم»، حيث تنتج مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية للسوق العالمية وتُقدّر قيمة صادراتها بـ3.4 تريليون وفائض في الميزان التجاري بنحو تريليون دولار مع نهاية عام 2024. يستفيد العالم بما فيه السوق الأميركي للوصول إلى منتجات منخفضة التكلفة تعزّز الإنفاق الاستهلاكي والنمو الاقتصادي. ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد يخلق أيضاً نقاط ضعف، حيث يمكن أن يكون للتعطيلات في التصنيع الصيني أو السياسات التجارية تأثيرات كبيرة في الاقتصاد العالمي والأميركي بشكل خاص.أنغام سيمفونية الحرب لن تهدأ ومتوهم من يتوقع تخفيض الحدة بين الطرفين، فكل من الولايات المتحدة والصين تعلم بأن من يسيطر على تلك التقنية المتقدمة سيكون سيد العالم في العقود الزمنية القادمة. لذلك تشكل ملحمة أشباه الموصلات قلب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. سباق تسلح تقني عالي التقنية دون فائز واضح في الأفق.السيناريوهات المقلقة لتصعيد النزاع إذا استمرت الحرب التجارية في التصعيد، فإن السيناريوهات المحتملة قد تكون مقلقة للغاية. يمكن أن تؤدي التعريفات الجمركية المتزايدة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وزيادة التضخم، وارتفاع معدلات البطالة، قد تتأثر قطاعات متعددة.بينما يتراقص العالم على أنغام الجاز الصاخبة في العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي يعلو صوتها مع كل تعرفة جمركية جديدة أو سياسة تجارية تعمق الفجوة بين البلدين، تتساقط القيم السوقية للشركات وتتأرجح اقتصادات دول. لا نعلم كيف سيُنهي الملحن أنغامه في تلك الرقصة، لكن من الواضح للجميع بأن طاولة المفاوضات هي الحل الأسلم للجميع الذي من الممكن أن يلقي عليهم مودةً ورحمة. فلا تنسوا الفضل بينكم بعلاقات ومصالح مشتركة وأمن وسلام عالمي يضمن النمو والازدهار المستمر للجميع.تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.